الدعاوى الحدية (2)
فضيلة الشيخ زهران بن ناصر البراشدي - قاضي المحكمــــة العــليا -
وذكر عن الشعبي رحمه الله قال: إذا كان مهر سر ومهر علانية أخذنا بالعلانية إلا أن تقوم بينة أنه أعلم ذلك، وأن المهر هو الذي في السر، وبهذا نأخذ....»
وهنا وجه آخر وهو تحكيم العرف إن كان ثمة عرف أو قرينة دالة على ذلك.
فمثلا في توثيق البيوع اعتاد الناس كتابة أقل الأسعار هربا من الضرائب في التوثيق وقد يعلنون الأكثر إن كان المشتري يريد منحة أو قرضا من جهات أخرى رغبة في أخذ الزيادة والكل ممقوت لاختلاف الظاهر مع الباطن إلا أنه لو وقع ذلك ففي هذه الحالة القرينة تقوي جانب من يقول المبطن هو السعر الحقيقي فلينظر فيه بإمعان.
وقيل: القولُ قولُ الموجب منهما ففي البيع مثلا كالمسألة الأولى مسألة الهزل؛ القول قول البائع مطلقا معللا صاحب هذا القول بأنه أراد بقوله بعته لك بألف درهم، ردا لكلام البائع على جهة التهكم.
وهو ضعيف مخالف للقاعدة الأصلية لما قدمت لك من أن الأصل الجد لا اللعب، والمؤمن لا ينسب إليه اللعب ولا اختلاف الظاهر مع الباطن ولم يذكر الحق سبحانه وتعالى ذلك إلا في الذم.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين، وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُون) المائدة. (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُون) الأنعام. (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُون) الأنعام. (قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُون) الأنعام. (الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُون) الأعراف. (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُون، أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُون) الأعراف. (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُون) التوبة. (مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون) الأنبياء. (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون) العنكبوت. (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُون) الزخرف. (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُون) الدخان. (إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُم) محمد. (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين، الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُون) الطور. (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور) الحديد. (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُون) المعارج. وقد أمرنا بمجانبة اللعب والابتعاد عنه، كما أمرنا بالجد في الأمور كلها؛ قال الله عز وجل (وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا) سورة البقرة.
أي جدّوا في الأخذ بها والعمل بما فيها، وارعوها حق رعايتها، وإلا فقد اتخذتموها هزوا ولعباً. يقال لمن لم يجدّ في الأمر: إنما أنت لا عب وهازئ.
(وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا) بالرخص والتأويلات الباطلة، وهو تحذير للناس من التوصل بأحكام الشريعة إلى ما يخالف مراد الله، ومقاصد شرعه.
ومن هذا الباب التوصل المنهي عنه إلى ما يسمى بالحيل الشرعية بمعنى أنها جارية على صور صحيحة في الظاهر، بمقتضى حكم الشرع، ومن أبعد الأوصاف عنها الوصف بالشرعية. والآية عامة في جميع الأوامر والنواهي بين الخلائق أجمعين وإن كان سببها ما يختص بأحكام النساء فسبب النزول لا يخصص عموما ولا يقيد مطلقا.
قال ابن عطية، المراد آياته النازلة في الأوامر والنواهي، وقال الحسن: نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعباً أو هازلاً، أو راجع كذلك. والذي يظهر أنه تعالى لما أنزل آيات تضمنت الأمر والنهي؛ في النكاح، وأمر الحيض والإيلاء، والطلاق والعدة، والرجعة والخلع، وترك المعاهدة، وكانت هذه أحكامها جارية بين الرجل وزوجته، وفيها إيجاب حقوق للزوجة على الزوج، وله عليها، وكان من عادة العرب عدم الاكتراث بأمر النساء والاغتفال بأمر شأنهن، وكنّ عندهم أقل من أن يكون لهنّ أمر أو حق على الزوج، وأنزل الله فيهنّ ما أنزل من الأحكام، وحدّ حدوداً لا تتعدى، وأخبرهم أن من خالف فهو ظالم متعدٍّ، أكد ذلك بالنهي عن اتخاذ آيات الله، التي منها هذه الآيات النازلة في شأن النساء، هزؤاً، بل تؤخذ وتتقبل بجد واجتهاد، لأنها من أحكام الله، فلا فرق بينها وبين الآيات التي نزلت في سائر التكاليف التي بين العبد وربه، وبين العبد والناس. وانتصب: هزؤاً، على أنه مفعول ثانٍ: لتتخذوا، وتقول: هزأ به هزؤاً استخف. والله أعلم.
إذا افترق المتفاوضان ثم ادعى أحدهما أن شريكه كان شريكه بالنصف، وادعى الآخر الثلث، وقد اتفقا على المفاوضة، فجميع المال بينهما نصفان؛ لأن الذي يدعي التفاوت متناقض أو راجع عن إقراره بالمناصفة فيقتضي إقراره بالمفاوضة.
ذلك أن الشركة على ثلاثة وجوه: شركة مضاربة وشركة عنان وشركة مفاوضة.
فشركة المضاربة هي أن يدفع زيد لعمرو مالاً يتجر به والربح بينهما على ما يتفقان عليه.
وأما شركة العنان- وتسمى أيضا شركة العيان- وهي أن يشترك اثنان أو جماعة في شيء خاص بعينه دون غيره.
وشركة المفاوضة فهي أن يتساوى الشريكان في المال الذي يجوز انعقاد الشركة فيه والتصرف وإن استفادا من تجارة أو هبة أو غيرها فهو بينهما.
وهي: أن يبيح كل منهما لصاحبه التصرف في ماله في كل ما فيه صلاح لهما بالبيع والشراء والكراء والاكتراء والأكل والإنفاق في الغيبة والحضور، ويدخل في شركة المفاوضة كل ما كسبه كل منهما ببدنه كأجرة ونحوها ولا يدخل فيها صداق ولا دية ولا إرث ولا زكاة ولا هدية إلَّا هدية الثواب.
أو قل بعبارة أخرى: موضوعها جميع رأس مال كلّ من المتعاقدين وما تولّد عنه من فائدة على الدّوام.
ويدخل فيها ما لكلّ من المتفاوضين من مال وقْتَ الاشتراك وبعده مباشرة أو ما كان قبل ولو لم يعلم به المفاوض أو صاحبه إلاّ بعد العقد إذ من شرطها العموم وما حدث من هدية أو هبة ثواب ولو لمال سابق وما يصيبه أحدهما من كنوز الأقدمين. والمعنى واحد.